عاش العالم ظروفا استثنائية وغير مسبوقة بسبب انتشار «جائحة كورونا»، والتي كان لها الأثر الواضح والمؤثر عالمياً على كافة قطاعات الحياة وأركان الاقتصاد المختلفة. إلا أن هذا التأثير قد تفاوت من قطاع إلى قطاع؛ وذلك بسبب تفاوت الإمكانيات والتقنيات المستخدمة في كل قطاع. وكانت الأولوية الأساسية خلال الجائحة هي إدامة الاقتصاد بالحد الأدنى لضمان استمرارية عمل القطاعات الحيوية وتلبية الحاجات الأساسية للمواطنين.
وكما نرى، فإن «جائحة كورونا» فرضت علينا العديد من التحولات الرقمية السريعة في مجالات متعددة، مثل مجالات الأعمال والتعليم والتسوق والدفع الإلكتروني وغيرها من المجالات العديدة. وهدفنا هنا هو التطرق الى تقنيات التحول الرقمي في أغلب القطاعات لتوفير حلول رقمية مستدامة ونظام حياة جديد بعد انتهاء هذه الجائحة إن شاء االله.
ففي مجال التعلم عن بعد، فقد كان هذا الأسلوب غير مقبول في الكثير من المدارس والجامعات؛ كون الفكرة غير تقليدية وتحتاج للكثير من الاستعداد الثقافي والتقني وتوفير قنوات الكترونية ومنصات متكاملة للتواصل بين الطلاب ومدرسيهم، إضافة الى عدم وجود محتوى رقمي متكامل للمواد الدراسية والمناهج وأنظمة متخصصة للاختبارات عن بعد مما يؤدي الى صعوبة ضمان مخرجات التعلم عن بعد ومحاكاتها لأساليب التعلم التقليدية. وبالرغم من كل التحديات أعلاه والتحفظات من بعض أقطاب العملية التعليمية، فقد جاءت الجائحة لكي تفرض الحاجة إلى هذا الأسلوب من التعلم وتدفع باتجاهه متجاوزة كل هذه التحديات. لذلك أدعو الجهات والمؤسسات التعليمية ان تتضافر جهودها بعد الأزمة لبناء أنظمة تعليم رقمية متكاملة وإعداد محتوى رقمي وخلق توجه مستدام للتعلم عن بعد. وعليه قد تقوم الجامعات باستهداف الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) كمرحلة اولى في التعليم عن بعد ومن ثم الانتقال لمرحلة البكالوريوس (عن طريق استهداف بعض المساقات الاختيارية). كما يمكن للمدارس استهداف بعض مواد المراحل الثانوية بداية ومن ثم الانتقال للمراحل الأخرى.
أما بخصوص العمل عن بعد، فقد اتجهت كثير من الشركات العالمية منذ زمن لنظام العمل عن بعد والنظام المرن المعتمد على الانجاز، والمبني على تواجد موظفي الشركة بأماكن ومدن مختلفة ويؤدون مهام العمل كفريق واحد ويقومون بعقد اجتماعات دورية عن بعد ومتابعات يومية؛ لضمان سير الاعمال معتمدين بذلك على التناغم بين الفريق والإدارة الحكيمة والالتزام بمواثيق العمل رغم بعد المكان. لذلك أدعو الشركات الى بناء أنظمة رقمية وبيئة عمل افتراضية تتيح امكانية العمل عن بعد جزئياً ومرحلياً؛ بهدف زيادة مرونة العمل وتحسين الانجاز وتقليل التكاليف، مع الأخذ بعين الاعتبار تطبيق ضوابط وآليات لتلافي أي سلبيات قد يؤدي اليها هذا النوع
من أسلوب العمل. وفيما يتعلق بالتجارة الإلكترونية، فهي من أكثر القطاعات التي شهدت تحولا رقميا سريعا على المستوى العالمي خلال العقد الاخير؛ حيث تطورت ثقافة التسوق الالكتروني بشكل مضطرد بسبب زيادة إجراءات الأمان في شبكة الإنترنت وتحول الكثير من الشركات ذات المصداقية العالية لتسويق بضاعتها بهذا الأسلوب، إلا أنها ما زالت في مرحلة النمو على المستوى المحلي نظراً لعدة عوامل أهمها التخوف لدى المواطن من جودة البضائع المعروضة الكترونيا، وقلة انتشار وسائل الدفع الالكتروني وعدم شمولية كافة الخدمات بها. وباعتقادي أن نجاح التسوق الإلكتروني على المستوى المحلي يعتمد على وجود حلقة متكاملة ذات مصداقية من الزبون مرورا بالمتجر حتى نهاية سلاسل الإمداد، بالإضافة لوجود منصات متكاملة للتوصيل مرتبطة بتلك الحلقة. وهذه فرصة لبناء تحالفات متكاملة بين شركات الإمداد وشركات التجزئة وشركات التوصيل بحيث تصبح هنالك منصات متكاملة لخدمة المشتري بشكل سهل ومتكامل وآمن. أما بخصوص القطاع الزراعي فهو لا زال في بداية عملية التحول الرقمي، وهنالك فرص ذهبية للاستثمار وتطوير تلك القطاعات محليا باستخدام حلول رقمية، فهنالك حاجة لوجود انظمة ري ذكية عن طريق استخدام انترنت الاشياء لترشيد استهلاك المياه ومعرفة درجة رطوبة التربة. هذا بالإضافة الى إمكانية الاستفادة من تقنيات الذكاء الصناعي (الروبوتات) بعمليات البذار والحصاد مما يساهم في تحسين جودة المنتج واستدامة الإنتاج بكافة الظروف. وفي القطاع الصناعي، والذي يعتبر العمود الفقري للاقتصاد والناتج المحلي سواء كانت صناعات انتاجية او تحويلية، فإنه يمكن الاستفادة من تقنيات الذكاء الصناعي وانترنت الاشياء (IIOT) عن طريق تطوير العمليات الإنتاجية وبناء سلاسل التوريد الذكية، والربط المباشر بين المبيعات الرقمية وخطوط الانتاج، واستخدام التقنية للتغلب على الفجوات بالمهارات، وبناء قنوات تواصل مباشرة للحصولعلى التغذية الراجعة من العملاء لتحسين جودة المنتج وكفاءة المصانع. أما في الصناعات الثقيلة فإنه يمكن بناء التوائم الرقمية (Twins Digital) لعمل تطوير مستمر للمنتج ذي التكلفة الباهظة وتقليل الأعطال واستدامة عمل هذه المنتجات في بيئة العمل.
أما في القطاع الصحي، فإن استخدام التقنية يخلق فرصا كثيرة للتطوير وتحسين الخدمات، ويفيد استخدام التقنية في الكشف المبكر عن المشاكل الصحية مثل ارتفاع نبضات القلب وضغط الدم والحرارة ومستوى السكر في الدم، وتشخيص ومتابعة المرضى عن بعد. كما أنه يمكن استخدام تقنيات الذكاء الصناعي لتحليل صور الاشعة وتشخص الأورام مما يساهم بالعلاج المبكر وتفادي الكثير من المضاعفات وتقليل كلف العلاج ورفع كفاءة الخدمات الصحية؛ مثل تسهيل متابعة حالة المريض عن بعد ومعرفة تاريخه المرضي بسهولة وسرعة علاجه بالحالات الطارئة.
وفي النهاية، وللوصول إلى تحول رقمي شامل في كافة القطاعات، فهنالك حاجة للتطوير في مسارين متوازيين، المسار الأول هو المسار التقني والذي يضمن توفير بنية تحتية رقمية ذات سرعات عالية وأنظمة اتصالات متقدمة ومنصات متكاملة تدعم السرعات العالية ومنخفضة التأخير (latency low & Speed High (مما يعزز الحاجة لبناء شبكات الجيل الخامس لدعم التحول الرقمي ولكي تكون منصات أعمال لكافة القطاعات. وأما المسار الثاني المهم، والذي يقع على عاتق رؤساء وأصحاب الشركات، هو وضع استراتيجيات جديدة من شأنها بناء نماذج جديدة للعمل (New Business Models) وتعديل الإجراءات والأنظمة وثقافة التفكير وتطوير المهارات والأدوات للتكيف مع التحولات الرقمية الكبيرة القادمة.
بقلم المهندس: بلال خالد الحفناوي
متخصص بقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي