في عصر التكنولوجيا المتقدمة، يبرز سؤال ملح: لماذا تتقلص الرواتب رغم النمو الاقتصادي المتزايد؟ تقرير حديث صادر عن منظمة العمل الدولية يكشف أن التغيرات التكنولوجية، بما في ذلك الأتمتة والذكاء الاصطناعي، تلعب دورًا رئيسيًا في هذا التحول. بينما يتزايد الناتج الإنتاجي، يواجه العمال تحديات جديدة تؤثر على حصتهم من الدخل. في هذا السياق، سنستعرض أبرز ما جاء في التقرير ونناقش العوامل التي تسهم في هذا الاتجاه المقلق.
الاتجاه العالمي لتقلص الرواتب
في السنوات الأخيرة، أشارت منظمة العمل الدولية إلى تراجع حصة دخل العمال في الاقتصادات الصناعية. يشير التقرير إلى أن هذه الظاهرة لا تعود فقط إلى الأزمات الاقتصادية، بل أيضًا إلى الابتكارات التكنولوجية في مكان العمل. نائبة مدير عام المنظمة، سيليست دريك، صرحت بأن العمال، رغم مساهمتهم في النمو الاقتصادي، يحصلون على حصة أقل من هذا النمو، مما يعزز من عدم المساواة في توزيع الثروات.
البيانات التي تم جمعها من 36 دولة توضح أن إجمالي رواتب العمال انخفض عالميًا بنسبة 0.6% بين عامي 2019 و2022، وقد استمر هذا الاتجاه منذ ذلك الحين. هذا الانخفاض يعكس عجزًا سنويًا يبلغ حوالي 2.4 تريليون دولار، مما يسلط الضوء على الفجوة المتزايدة بين الإنتاجية ودخل العمال.
الابتكارات التكنولوجية وتأثيرها على العمال
تشير الدراسات إلى أن الابتكارات التكنولوجية، مثل الأتمتة والذكاء الاصطناعي، تؤدي إلى تغييرات جوهرية في سوق العمل. وفقًا لستيفن كابسوس، رئيس وحدة إنتاج وتحليل البيانات لدى منظمة العمل الدولية، زادت إنتاجية العمال بنسبة 58% بين عامي 2004 و2024، بينما زاد دخلهم بنسبة 53% فقط. هذه الفجوة البالغة 5 نقاط مئوية تشير إلى أن العمال لا يستفيدون بشكل متناسب من الزيادة في الإنتاجية.
كما أشار التقرير إلى أن حوالي 40% من انخفاض الدخل العالمي حدث خلال السنوات الثلاث لجائحة كوفيد-19. هذا التراجع في الدخل يتطلب تدخلات سياسية فعالة من الحكومات لمعالجة الفجوات المتزايدة التي قد تفاقمها التغيرات التكنولوجية المستمرة.
الحاجة إلى سياسات فعالة
تشدد منظمة العمل الدولية على أهمية اتخاذ الحكومات خطوات فعالة للحد من التفاوتات الناجمة عن الابتكارات التكنولوجية. من بين التوصيات المقدمة، ضرورة تقديم الحماية الاجتماعية الشاملة للعمال، ووضع حد أدنى لائق للأجور.
أيضًا، يجب على الدول تعزيز السياسات التي تدعم حرية تكوين الجمعيات والاعتراف بالمفاوضة الجماعية، مما يمكّن العمال وأصحاب العمل من التفاوض بشأن كيفية تقاسم مكاسب الإنتاجية بشكل عادل.
البطالة بين الشباب
أحد الجوانب المثيرة للقلق التي أظهرها التقرير هو ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، التي انخفضت بشكل طفيف من 21.3% في عام 2015 إلى 20.4% في الوقت الراهن. الدول العربية تعاني من أعلى نسبة بطالة بين الشباب، حيث تصل إلى الثلث، تليها أفريقيا التي يواجه فيها حوالي ربع الشباب صعوبة في العثور على فرص عمل.
هذا الوضع يتطلب استراتيجيات شاملة لمعالجة تحديات البطالة، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية المتغيرة التي تفرضها الابتكارات التكنولوجية.
تتطلب التحديات التي تواجه العمال في عصر الأتمتة والذكاء الاصطناعي استجابة سريعة وفعالة من الحكومات والشركات. يجب أن تكون السياسات الاقتصادية والاجتماعية مدفوعة برؤية شاملة تسعى إلى تحقيق التوازن بين الفوائد التكنولوجية وحماية حقوق العمال. إن الفجوة المتزايدة بين الإنتاجية ودخل العمال تهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، ويجب أن تكون الأولوية لتقديم حلول تعزز من العدالة الاجتماعية وتحقق التنمية المستدامة. في نهاية المطاف، من الضروري أن ندرك أن التكنولوجيا يجب أن تكون أداة لتعزيز الرفاهية البشرية، لا أن تكون عاملًا في تفاقم الفجوات الاقتصادية.
المصدر: الأمم المتحدة