جدول المحتويات
في غضون سنوات قليلة فقط، تحول الذكاء الاصطناعي من حلم مستقبلي إلى قوة مزعزعة تُعيد تشكيل الصناعات والاقتصادات والمجتمعات. ما بدأ كمهمة لتعزيز القدرات البشرية وحل المشكلات العالَمية الأكثر إلحاحًا، تحول تدريجيًا إلى سباقٍ للهيمنة بين عمالقة التكنولوجيا. في خضم هذا التطور السريع، لعب شخصيتان بارزتان — سام ألتمان من أوبن إيه آي ودميس هاسبيس من ديب مايند — دورًا محوريًا في توجيه مسار الذكاء الاصطناعي، ولكن ليس بدون جدل وتنازلات. قصة صعود الذكاء الاصطناعي هي قصة ابتكار وطموح وإمكانات هائلة، لكنها أيضًا تنطوي على معضلات أخلاقية وتأثير هائل لهيمنة الاحتكارات.
قد تتساءل بعد قراءة هذا المقال: هل كُتب من قبل إنسان أم ذُكاء اصطناعي؟ قبل عقد من الزمان، كان هذا التساؤل يبدو مستحيلاً، لكن في يومنا هذا، هو تساؤل مشروع. فقد باتت الآلات الآن قادرة على إنتاج نصوص، وفنون، وموسيقى، وبرمجيات لا يمكن تمييزها تقريبًا عن إبداعات البشر، مما يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل العمل والإبداع والمجتمع.
يتناول هذا المقال تطور الذكاء الاصطناعي وتأثيره على الصناعات الإبداعية، بالإضافة إلى التحديات الأخلاقية التي يطرحها. كما يسلط الضوء على دور سام ألتمان ودميس هاسبيس في قيادة هذه الثورة من خلال أدوات ChatGPT من أوبن إيه آي ومبادرات الذكاء الاصطناعي لديب مايند. رحلتهم من الرؤى المثالية لخدمة البشرية نحو أن يصبحوا لاعبين رئيسيين في سباق الربح بين شركات التكنولوجيا تُعد بمثابة قصة تحذيرية عن وعود الذكاء الاصطناعي ومخاطره.
ثورة الذكاء الاصطناعي: من رؤية إنسانية إلى سباق شركات
ظل الذكاء الاصطناعي حلمًا طالما راود الباحثين والتقنيين، لكن نموه المتسارع خلال العقد الأخير حوّله من اهتمام أكاديمي محدود إلى صناعة تتجاوز قيمتها مليارات الدولارات. في البداية، كانت الطموحات تجاه الذكاء الاصطناعي تتمثل في استخدامه كأداة لتحسين أوضاع البشر وحل التحديات العالمية، مثل التغير المناخي والرعاية الصحية. لكن التركيز تغير بشكل جذري مع دخول شركات التكنولوجيا الكبرى مثل جوجل ومايكروسوفت وميتا إلى الساحة، حيث تسعى هذه الشركات إلى استغلال الإمكانات الربحية الهائلة للذكاء الاصطناعي.
كان إطلاق ChatGPT من أوبن إيه آي في أواخر عام 2022 نقطة تحول في هذا السباق. الآلة القادرة على توليد نصوص مشابهة للبشر أذهلت العالم وأشعلت سباقًا عالميًا لتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر تعقيدًا. هذه الأنظمة لم تعد مجرد أدوات لمعالجة المعلومات؛ بل أصبحت مصادرًا لإنتاجها، من الكتابات إلى الصور الواقعية للشخصيات العامة مثل دونالد ترامب. في غضون أشهر، تطور الذكاء الاصطناعي من توليد صور هزلية للقطط والكلاب إلى إنتاج صورٍ فائقة الواقعية يمكن استخدامها في نشر المعلومات الزائفة.
في قلب هذا التحول يقف زعيمان رؤيويان: سام ألتمان ودميس هاسبيس. كلا الرجلين كانا يحلمان في البداية بإنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي لخدمة البشرية، ولكن سرعان ما جذبتهم الضغوط المالية والتنافسية لصناعة التكنولوجيا. قصتهما تعكس اتجاهًا أوسع: التحول من الذكاء الاصطناعي كأداة إنسانية نحو منتج مربح تسيطر عليه مجموعة قليلة من الشركات الكبرى.
سام ألتمان ودميس هاسبيس: الابتكار وراء ازدهار الذكاء الاصطناعي
سام ألتمان، رائد أعمال تقني في أواخر الثلاثينيات من عمره، اشتهر بكونه أحد مؤسسي أوبن إيه آي ومطور ChatGPT. كان ألتمان يؤمن بأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون قوة للخير، إذ يمكنه ديمقراطية الوصول إلى المعلومات وتحسين جودة الحياة لمليارات الأشخاص. كانت رؤيته متجذرة في الاعتقاد بأن الذكاء الاصطناعي يمكنه فتح آفاق جديدة للابتكار وتعزيز الإنتاجية، مما يساعد البشرية في حل مشكلاتها الأكثر تعقيدًا.
على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، أسس دميس هاسبيس، بطل شطرنج سابق تحول إلى باحث في الذكاء الاصطناعي، شركة ديب مايند برؤية مماثلة طموحة. كان هدف هاسبيس هو إنشاء أنظمة ذكاء اصطناعي بإمكانها تحقيق الاختراقات العلمية، من فهم أصول الحياة إلى علاج الأمراض. يعكس شعار شركته “حل الذكاء، ثم حل كل شيء آخر” الجوهر المثالي الذي كان يوجه عمله.
ومع ذلك، سرعان ما أدرك كلا الرجلين أن تحقيق هذه الأهداف يتطلب موارد هائلة – موارد لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الشركات التكنولوجية الكبرى. ومع مرور الوقت، لجأ كلاهما إلى شركات مثل جوجل ومايكروسوفت للحصول على التمويل، وهو ما جاء بتنازلات كبيرة. قام ألتمان بتغيير هيكل أوبن إيه آي من منظمة غير ربحية إلى نموذج “ربحي محدود” لجذب استثمارات بمليارات الدولارات من مايكروسوفت، بينما باع هاسبيس ديب مايند إلى جوجل في 2014. ومنذ ذلك الحين، شهد كلاهما تداعي رؤاهما تحت ضغوط المنافسة المالية.
المعضلات الأخلاقية لتطور الذكاء الاصطناعي
مع استمرار تطور الذكاء الاصطناعي بوتيرة سريعة، يثير ذلك تساؤلات أخلاقية جوهرية. في حين يرى بعض الباحثين أن الذكاء الاصطناعي خطوة نحو المدينة الفاضلة، يحذر آخرون من أنه قد يقود إلى انهيار الصناعات، وربما حتى الحضارات. واحدة من أهم القضايا هي قدرة الذكاء الاصطناعي على تعزيز التحيزات القائمة في المجتمع. فقد أظهرت العديد من الأنظمة الذكية قدرتها على تعزيز القوالب النمطية العرقية والجندرية. على سبيل المثال، إذا طُلب من أحد الأنظمة الذكية توليد صورة لمدير تنفيذي، فمن المحتمل أن يقدم صورة لرجل أبيض. وإذا طُلب منه صورة لمجرم، فقد تظهر صورة لشخص من ذوي البشرة الملونة.
هذه التحيزات ليست مجرد مخاوف نظرية؛ بل لها تأثيرات واقعية. يتم دمج أنظمة الذكاء الاصطناعي في كل شيء، بدءًا من عمليات التوظيف وصولًا إلى الأنظمة القضائية، حيث يمكن للخوارزميات المتحيزة أن تزيد من تفاقم الفوارق الهيكلية. وكمحاولة للتصدي لهذه المخاوف، قامت بعض الشركات، مثل جوجل، بتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر أخلاقية. ومع ذلك، غالبًا ما تفشل هذه المحاولات. ففي أوائل عام 2024، أطلقت جوجل أداة جديدة لتوليد الصور تهدف إلى معالجة الانحياز، لكنها اضطرت إلى سحبها من السوق بعد أن أدخلت مشكلات جديدة نتيجة التصحيح المُبالغ فيه.
المعضلات الأخلاقية للذكاء الاصطناعي لا تقتصر على الانحياز، إذ يهدد الذكاء الاصطناعي أيضًا بإحداث اضطرابات شاملة في صناعات تعتمد على الإبداع البشري. يشعر الكتاب والفنانون والموسيقيون بالقلق المتزايد من أن الآلات ستتفوق عليهم في وظائفهم من حيث السرعة والكفاءة. وقد أثار ذلك مخاوف واسعة بشأن مستقبل العمل، خاصة في المجالات الإبداعية.
الاستحواذ المؤسسي على الذكاء الاصطناعي: ماذا يعني للمستقبل؟
بدأ الذكاء الاصطناعي كحقل مدفوع بالفضول الأكاديمي والرغبة في تحسين أوضاع البشرية، لكن اليوم يُهيمن عليه عدد قليل من الشركات، كل منها يسعى للسيطرة. استثمرت شركات مثل جوجل ومايكروسوفت مليارات الدولارات في تطوير الذكاء الاصطناعي، ويزداد تأثيرها على هذا المجال يومًا بعد يوم. هذه الشركات تسيطر الآن على أقوى الأنظمة الذكية في العالم، وتدمج منتجاتها في كل شيء، من الهواتف الذكية إلى منصات الحوسبة السحابية.
تثير هذه السيطرة المركزة عددًا من المخاوف. أولًا، تُعيق هذه الهيمنة المنافسة، مما يجعل من الصعب على الشركات الصغيرة والباحثين الدخول في هذا المجال. كما تمنح هذه الشركات قوة غير مسبوقة في التحكم بالبيانات والأدوات التي تُشكّل عالمنا. والأكثر إثارة للقلق هو أن الطبيعة الربحية لهذه الشركات دفعتها إلى تفضيل الأرباح قصيرة المدى على الفوائد المجتمعية طويلة المدى.
ألتمان وهاسبيس، اللذان كانا في يوم من الأيام من دعاة استخدام الذكاء الاصطناعي لخدمة الصالح العام، يجدان نفسيهما الآن تحت سيطرة هذه الشركات العملاقة. تطغى على رؤاهم الأصلية الرامية إلى حل المشكلات العالمية الحاجة إلى تقديم منتجات مربحة. وبينما يستمرون في دفع حدود الذكاء الاصطناعي، فإنهم في الوقت ذاته يمكّنون الشركات التي سعوا في يوم من الأيام إلى تجنبها.
إن قصة صعود الذكاء الاصطناعي هي قصة تجمع بين الوعد والخطر. من جهة، يحمل الذكاء الاصطناعي القدرة على إحداث ثورة في الصناعات، وحل التحديات العالمية، وتحسين جودة حياة مليارات البشر. ومن جهة أخرى، يهدد بزيادة الفجوات المجتمعية، وتعريض الصناعات الإبداعية للخطر، وتركيز القوة في أيدي قلة من الشركات.
لعب سام ألتمان ودميس هاسبيس دورًا رئيسيًا في تشكيل مسار الذكاء الاصطناعي، لكن رحلتهما تروي حكاية تحذيرية حول التنازلات التي تصاحب التدخل المؤسسي. تبرز قصصهم التحديات الأخلاقية والمجتمعية التي تُرافق تطور الذكاء الاصطناعي، وهي تحديات ستتزايد حدتها مع استمرار تقدم هذه التقنية.
بينما نمضي قدمًا نحو مستقبل تهيمن عليه الذكاء الاصطناعي، من الضروري أن نحقق توازنًا بين الابتكار والأخلاق، لضمان أن يخدم الذكاء الاصطناعي البشرية بأسرها، وليس فقط مصالح عدد قليل من الشركات العملاقة.