قبل أكثر من 100 عام شكّل اكتشاف النفط علامةً فارقةً في تاريخ البشرية، إذ أسهم اكتشافه على نحو لافت في تسريع حركة الصناعة والتجارة والنقل، وأدى إلى ازدهار اقتصاد كثير من الدول محدثاً نقلة نوعية في مستوى دخل الفرد فيها. واليومَ، ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين، ومع دخولنا عصرَ الثورة الصناعية الرابعة، فإنّ كثيراً من الخبراء والمختصين ينظرون للبيانات الضخمة (Big Data) بوصفها “نفط المستقبل”، التي سيحمل استخدامها وتوظيفها أهميّة كبيرة، وستمثّل مصدراً هاما في الاقتصاد الرقمي لكثير من الدول.
تُعرف البيانات الضخمة بأنها مجموعة من البيانات الخام كبيرة الحجم، وعالية السرعة، ومختلفة المصدر، والتي تتطلب طرقاً مبتكرة، وفعالة، وغير تقليدية لتحليلها ومعالجتها للحصول على معلومات مفيدة منها. وقد بدأ مفهوم البيانات الضخمة بالانتشار منذ عام 2005، وتصاعدت وتيرة الاهتمام بها على نحو سريع منذ ذلك الوقت، فبحسب تقرير شركة (Statista) فإن الإيرادات من البيانات الضخمة وتحليلات الأعمال المتعلقة بها وصل في عام 2019 إلى 49 مليار دولار حول العالم، ومن المتوقع أن ينمو سوق البيانات الضخمة العالمي إلى 103 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2027 ، أي أكثر من ضعف حجم السوق في عام 2018.
يوجد مصادر عديدة ومختلفة للبيانات الضخمة، ويتم تصنيفها ضمن ثلاث مجموعات رئيسة: البيانات الاجتماعية (Social Data)، وبيانات الآلات (Machines Data)، وبيانات المعاملات (transactions Data). ومصدر البيانات الاجتماعية هو الإعجابات والتغريدات والتعليقات وتحميلات الفيديو والوسائط العامة التي يتم مشاركتها عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة في العالم؛ حيث يوفّر هذا النوع من البيانات رؤى واضحة ودقيقة حول سلوك المستهلك واهتماماته، ويلعب دوراً محورياً في تحليلات استراتيجيات التسويق.
وفيما يتعلق ببيانات الآلات فإنّ استقصاءها يتمّ بواسطة المعدات والأجهزة الإلكترونية والصناعية وأجهزة الاستشعار المثبتة في الآلات وحتى مواقع الإنترنت أو البرامج المختلفة التي تراقب سلوك المستخدم، ومن المتوقع أن ينمو هذا النوع من البيانات بشكل مطّرد مع نمو وزيادة انتشار استخدام تطبيقات إنترنت الأشياء (IoT) في مختلف القطاعات. أما بخصوص بيانات المعاملات فهي تُنتَج من جميع المعاملات اليومية التي تتم عبر الإنترنت بكافة الإجراءات الإلكترونية متل العمليات المالية والتسوق والدفع الإلكتروني وتعبئة النماذج المختلفة، ولكنّ تلك البيانات لا قيمة لها دون تحليلها وفهمها؛ حيث يعدّ “تنقيب وتكرير” تلك البيانات للحصول على معلومات ذات قيمة عالية منها هو التحدي الحقيقي.
ويبدو جلياً أن هناك فرصاً واعدة للاستفادة من البيانات الضخمة في القطاعات العامة والخاصة على حد سواء، ففي القطاع العام يمكن الاستفادة من البيانات الهائلة المهيكلة وغير المهيكلة والمتعلقة بمعاملات المواطنين وسجلاتهم المختلفة بربط تلك البيانات، ومن ثم تسهيل الخدمات عن طريق شبكة وطنية رقمية (E-government network)، بحيث تحتوي تلك الشبكة كافة المعلومات المحدّثة، وتكون انطلاقة تغيير للأفضل من حيث تقليل الوقت اللازم لإنجاز المعاملات وتحسين الأداء، وستساعد تلك البيانات بتوضيح نسبة الإنجاز في كافة الدوائر والمؤسسات الحكومية. كما سوف تساهم في صناعة القرارات المهمة للدول وخصوصا في الظروف الصعبة (جائحة كورونا مثلا)، إذ شكّلت البيانات الصحيحة للمخزون الاستراتيجي من الطاقة والمواد الغذائية والدواء والمواد الأساسية وسلاسل الإمداد والإنتاج عاملاً مفصلياً في إدارة الكوارث وإدامة الحياة وتجنب المشاكل الاقتصادية في كثير من الدول الكبرى. وبخصوص القطاع الصحي فإن وجود شبكة بيانات محدثة ومترابطة تسهم بشكل مؤثر بدراسة الأمراض المنتشرة وتصنيفها حسب الفئات العمرية وعمل حلول وقائية وخطط علاجية ناجعة لكافة أنواع الأمراض ومتابعة حالات المرضى. أما بالقطاع الخاص، فهنالك أوجه كثيرة للاستفادة من البيانات الضخمة في فهم وتحليل حركات البيع والشراء لكافة العملاء وتصنيف السلع حسب أهميتها وحجم الطلب عليها، وهذا ينطبق على كافة قطاعات التجزئة، فضلاً عن إسهام البيانات في تمكين الشركات من الاستفادة من برامج الولاء للعملاء بتلبية احتياجاتهم المختلفة وترويج سلع جديدة. كما تساهم البيانات الاجتماعية وبشكل أساسي بمعرفة ميول واهتمامات المستخدم للإنترنت، ومن ثم زيادة التنافس في عملية التجارة الإلكترونية والترويج للبضائع بناءً على المعرفة باحتياجات الزبائن، وتقديم بضائع بأسعار تنافسية.
وترتبط البيانات الضخمة ارتباطاً وثيقاً بالتقنيات الرقمية الأخرى مثل الحوسبة السحابية (Cloud Computing) بجزئية تخزين ومعالجة تلك البيانات، لامتيازها عن الحواسيب العادية بقدرتها على تحمّل البيانات الكبيرة. كما وترتبط البيانات الضخمة بالذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence) باعتبارها مصدراً مهماً في تعلم الآلة (Machine learning) للعمل بفعالية أكبر وتمكينها للعمل بفعالية أكبر عن طريق انواع تعلم الالة المختلفة (Supervised, Unsupervised and reinforced learning) وتستخدم لبناء نماذج التعلم العميق (Deep learning)، كما يتم الاستفادة من التحول الرقمي والبيانات الضخمة في ذكاء الأعمال (Business intelligence) من أجل بناء طرق رقمية وأساليب جديدة لإدارة كافة الأعمال.
ومما لا شك فيه أن هنالك تحديات كبيرة تواجه الاستفادة المُثلى من البيانات الضخمة، منها قلة المهارات والكفاءات المتخصصة والمدرَّبة في علم البيانات والقادرة على التعامل معها بكفاءة، وضعف البنى التحتية والأنظمة القادرة على استقبال وإدارة وتحليل هذه البيانات بالوقت والكفاءة المطلوبين. ومما لا شك فيه أن الأمن والمحافظة على الخصوصية تُشكّل جزءاً من أهم التحديات التي تواجه البيانات الضخمة، إذ يتطلب الأمر من المؤسسات والشركات المحافظة على سرية البيانات وتخزينها بأماكن يصعب الوصول إليها واختراقها، لضمان استمرار الثقة بين المؤسسة وعملائها بكافة القطاعات. وفي هذا السياق تبرز أهميّة حوكمة البيانات كواحدةٍ من الخطوات المهمة التي يجب أن تقوم بها كل مؤسسة سواء أكانت صغيرة أم كبيرة؛ إذ إنّ هذه الخطوة تنظّم التعامل مع البيانات من ناحية سريتها وخصوصيتها ومن ناحية جودتها وسهولة استخدامها، فالحوكمة بشكل عام تهدف إلى إنتاج بيانات عالية الجودة، ونظيفة، ودقيقة، وآمنة ، وحديثة، ما يجعلها الخطوة الأولى التي يجب اتّباعها لإدارة البيانات.
ولغايات تحقيق الأهداف المرجوّة من البيانات الضخمة، وتماشياً مع التقدم العلمي والتقني، فإنّ من المسؤوليات التي تقع على عاتق الجامعات والكليات التقنية أن تعملَ على بناء القدرات في مجال البيانات الضخمة من حيث تطوير التخصصات الحالية أو استحداث تخصصات جديدة متعلقة بعلم وإدارة البيانات، ومن هذه التخصصات على سبيل الذكر وليس الحصر: إدارة البيانات الضخمة، تحليل البيانات، تعلم الآلة (Machine learning)، عالم البيانات ((Data scientist، مهندس البيانات، مطور البيانات الكبيرة ، استشاري بيانات، مطور أعمال أنظمة ذكاء اصطناعي، والتخصصات ذات العلاقة، مما سيؤدي إلى بناء القدرات في هذا المجال الحيوي الهام؛ حيث إن الطلب المحلي والعالمي سيزداد بشكل هائل على هذه التخصصات وبالتالي خلق فرص جديدة للعمل. كما أن ثمّة فرصة للتعاون بين الجامعات ومراكز المعرفة والبحوث المتخصصة للاستفادة من تحليلات البيانات المختلفة في البحوث العلمية في مختلف المجالات، فضلا عن وجود فرصة لبناء شركات تقنية ريادية متخصصة بالمعرفة لكي تساعد الحكومات والشركات والقطاعات المختلفة في تحليل محتوياتها الرقمية الغنية بكافة القطاعات للوصول لاستراتيجيات جديدة وإضافة قيم نوعية وتحسين الخدمات بكافة المجالات كالصناعة والتجارة والطاقة والتعليم والصحة، بالإضافة إلى وجود فرص حقيقية لتأسيس شركات ريادية تقدّم الاستشارات للمستثمرين في عدد متنوّع من المجالات بناء على البيانات الضخمة، بحيث يتم تحديد مجالات الاستثمار الأكثر جدوى وأهمية اقتصاديةً بناء على تحليل البيانات الذي يمكن أن تقوم به هذه الشركات الريادية الناشئة، ومن ثمّ تقدّمه كخدمات استشارية للمستثمرين في المجالات المختلفة.
ومجمل القول أنّ البيانات الضخمة أصبحت مصدر قوّة رئيسياً في أي مجتمع قائم على المعرفة، وأنّ من شأنها أن تسهم على نحو كبير في دعم المساعي الحثيثة نحو التنمية الشاملة المستدامة، واتّخاذ القرارات المبنيّة على فهم وتحليل حقيقيين للواقع، وهو ما لا يتأتى إلا بالوعي الكافي بأهمية هذه البيانات واستغلال كافة المصادر المتاحة وتبني الاقتصاد المعرفي الحقيقي المخفي تحتها.
بقلم المهندس: بلال خالد الحفناوي
متخصص بقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والتحول الرقمي