جدول المحتويات
أدى ظهور تقنية “التزييف العميق” (Deepfake) إلى خلق تحديات وفرص جديدة للصحفيين الذين يقفون في الخطوط الأمامية لمواجهة التضليل الإعلامي. وقد أصبحت منصات التواصل الاجتماعي أرضًا خصبة لنشر المحتوى المضلل، خاصة مع استخدام الخوارزميات لتقديم منشورات مخصصة تخفي أحيانًا الخط الفاصل بين الحقيقة والتزييف. استجابةً لهذا التحدي المتزايد، طورت منظمة “ترو ميديا” (TrueMedia)، وهي مؤسسة غير ربحية تأسست في عام 2024، أداة مدعومة بالذكاء الاصطناعي لمساعدة الصحفيين على اكتشاف ومكافحة المحتوى المزيف الناتج عن تقنية التزييف العميق.
تأتي هذه الأداة المبتكرة في وقت حرج، حيث أصبحت أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي أكثر سهولة واستخدامًا، مما يزيد من انتشار الوسائط المضللة. بدءًا من الخطب السياسية المزيفة وصولًا إلى الصور المعدلة التي تثير جدلًا عالميًا، أصبح تأثير تقنية التزييف العميق أكثر خطورة من أي وقت مضى. يستعرض هذا التقرير كيف تعمل أداة “ترو ميديا”، ومدى تأثير تقنية التزييف العميق على الإعلام، وأهمية تسليح الصحفيين بأدوات متقدمة للحفاظ على ثقة الجمهور في عصر يهيمن عليه التضليل الإعلامي.
صعود المحتوى المخصص ودوره في نشر التضليل
غيّرت منصات مثل تيك توك وإنستغرام ويوتيوب كيفية استهلاك الناس للمحتوى، حيث أصبح المحتوى المخصص ميزة أساسية لجذب المستخدمين. فعلى سبيل المثال، تعتمد خوارزمية صفحة “For You” في تيك توك على تفضيلات المستخدمين وسجل التصفح والموقع الجغرافي لتقديم تدفق لا نهائي من المحتوى. دفع نجاح تيك توك المنصات الأخرى إلى تبني نماذج مشابهة؛ فقد أطلقت إنستغرام ميزة المنشورات المقترحة في عام 2018 وميزة الفيديوهات القصيرة “Reels” في عام 2020، وكذلك يوتيوب التي قدمت “Shorts” في نفس العام. وفي عام 2024، انضمت منصة “إكس” (تويتر سابقًا) بإطلاق تبويب “For You”.
ورغم أن هذه الخوارزميات حفزت تفاعل المستخدمين مع المحتوى، إلا أنها ساهمت أيضًا في زيادة انتشار التضليل. إذ تركز الخوارزميات على المحتوى الذي يحقق الإعجابات والمشاركات والتعليقات دون النظر إلى دقته. ونتيجة لذلك، يمكن أن تنتشر الروايات الزائفة والمحتوى المزيف بنفس سرعة انتشار الأخبار الحقيقية. وعلّقت سيجين بايك، مديرة المنتجات في منظمة TrueMedia.org، على ذلك قائلة: “لا يهم من تتابع؛ يتم تقديم المحتوى بناءً على ما تعتبره الخوارزمية مثيرًا للاهتمام.”
هذا البيئة الرقمية، التي تحركها الخوارزميات، أتاحت المجال لازدهار تقنية التزييف العميق، التي تدمج الذكاء الاصطناعي مع التلاعب بالوسائط لإنشاء صور ومقاطع فيديو وصوتيات مزيفة بواقعية مذهلة. على سبيل المثال، زادت تقنية التزييف العميق من الغموض الإعلامي خلال الانتخابات الأميركية لعام 2024، حيث انتشرت مقاطع فيديو خطابية مزيفة وصور معدلة لأحداث سياسية، الأمر الذي صعّب على الجمهور التمييز بين الحقيقة والتزييف.
التزييف العميق: تهديد متزايد بخداع الذكاء الاصطناعي
شهدت تقنية التزييف العميق تطورًا سريعًا، حيث أصبحت قادرة على إنتاج وسائط مزيفة بأقصى درجات الدقة. ابتداءً من مقاطع فيديو لقادة عالميين يدلون بخطابات لم تحدث فعليًا، إلى صور مفبركة لكوارث طبيعية، تزداد التداعيات خطورة. ففي عام 2023 وحده، تم تحديد أكثر من 500 مقطع فيديو مزيف بالذكاء الاصطناعي نُشر على الإنترنت، مع استخدامات تتنوع بين التضليل السياسي والجرائم الإلكترونية.
تتمثل خطورة التزييف العميق في استغلاله للمشاعر الإنسانية. فعلى سبيل المثال، خلال الكوارث الطبيعية الأخيرة في الولايات المتحدة، انتشرت صور مزيفة تُظهر مشاهد غمر بالمياه بُنيت باستخدام الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع داخل وسائل التواصل الاجتماعي. وبينما شارك بعض المستخدمين تلك الصور عن عمد لأهداف سياسية، كان آخرون غير مدركين لأنهم ينشرون معلومات مضللة، مما ساعد في تعزيز انتشارها.
أما التصدي لهذا التحدي فيتطلب أكثر من مجرد أدوات كشف تقني. يرى بايك ضرورة التحقيق في أصول ودوافع المحتوى المضلل، مشددًة على أن الاكتفاء بتحديد التزييف غير كافٍ. وأضافت: “تقع على عاتق الصحفيين مسؤولية تثقيف جمهورهم وتزويدهم بالمعلومات الصحيحة.”
أداة “ترو ميديا” المدعومة بالذكاء الاصطناعي: كيف تعمل؟
تقدم أداة “ترو ميديا” حلاً عمليًا لمواجهة انتشار التزييف العميق. باستخدام تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي المتقدمة، تتيح هذه الأداة للصحفيين تقييم مصداقية المحتوى المنشور عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يمكن للمستخدمين إدخال رابط المحتوى في المنصة، والتي تقوم بعد ذلك بتحليل البيانات من خلال خوارزميات كشف تعتمد على تقنيات تم تطويرها بالتعاون مع شركات تقنية رائدة.
تزود الأداة المستخدم بدرجة احتمالية تحدد ما إذا كان المحتوى مولدًا بواسطة الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، فإن الأداة ليست مثالية، حيث تواجه صعوبات في اكتشاف التعديلات التقليدية (ما يُعرف بالتزييف العادي أو “cheap fakes”) أو الوسائط المختلطة التي تمزج بين العناصر الحقيقية والزائفة.
رغم هذه التحديات، تمثل الأداة خطوة مهمة للأمام. وعلّقت بايك على ذلك بقولها: “رغم أننا بعيدون عن تحقيق دقة بنسبة 100٪، إلا أن هذه التكنولوجيا تقربنا من مواجهة التحديات التي يفرضها التزييف العميق. إذا استخدم الذكاء الاصطناعي للتزييف، فسنستخدمه أيضًا لمكافحته.”
بناء نظام إعلامي مرن لمواجهة التضليل
لا يقتصر التصدي للتزييف العميق (Deepfakes) على الحلول التقنية فقط، بل يتطلب أيضًا تركيز الصحفيين على العوامل المجتمعية التي تتيح للتضليل الإعلامي الانتشار والتأثير. فهم الأسباب التي تجعل الروايات الزائفة تجد صداها لدى الجمهور، ومعالجة السياقات العاطفية والسياسية التي تغذي انتشارها، هما عنصران أساسيان في هذه المواجهة.
فعلى سبيل المثال، خلال تداول صور مولّدة بالذكاء الاصطناعي للأعاصير الأخيرة في الولايات المتحدة، لم يقتصر العمل على تفنيد المحتوى فحسب، بل تضمنت الجهود أيضًا تحليل كيفية تأثير هذه الصور على الجمهور واستجابتهم لها. وبهذه الطريقة، تمكن الصحفيون من مجابهة الروايات المضللة بأسلوب أكثر فعالية.
علاوة على ذلك، فإن التعاون بين الصحفيين والمطورين التكنولوجيين وصنّاع السياسات يُعد ضرورة ملحّة. فالوجود أدوات مثل “TrueMedia” لاكتشاف التزييف العميق يمثل خطوة هامة، ولكنها بحاجة إلى أن تتكامل مع حملات تعزيز الوعي الإعلامي، وسياسات أكثر صرامة لمراقبة المحتوى، وكذلك معايير أخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي.
الابتكار والتعاون في مواجهة تحديات الذكاء الاصطناعي
مع استمرار تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، ستتسع أيضاً تطبيقاتها سواءً في الاتجاهات الإيجابية أو الاستخدامات الخبيثة. ويُبرز صعود التزييف العميق الحاجة الماسة إلى الابتكار واليقظة والعمل المشترك في مكافحة المعلومات المضللة. وتُعد أداة الذكاء الاصطناعي التي طورتها “TrueMedia” خطوة واعدة، حيث تزود الصحفيين بوسائل فعالة لتحديد المحتوى المُضلَّل والحفاظ على نزاهة المعلومات.
إلا أن التقنية وحدها لن تكون كافية لحل هذه المشكلة. هناك حاجة إلى نهج شامل يشمل التعليم، والتنظيم، وتطبيق ممارسات أخلاقية في تطوير الذكاء الاصطناعي، لحماية ثقة الجمهور بالمعلومات. وكما عبّر بايك ببلاغة: “الأمر ليس مجرد تحديد المحتويات المزيفة؛ بل يتعلق بتمكين المجتمع من التنقل ضمن مشهد إعلامي معقد بثقة ووضوح”.
مع وجود أدوات مثل “TrueMedia” والتزام بممارسات التفكير النقدي، يستطيع قطاع الإعلام مواجهة التحديات وضمان انتصار الحقيقة في عصر يتزايد فيه تأثير الذكاء الاصطناعي على حياتنا.